قبل هذا القرن كانت شرارة الحرب تشكل بداية تغيير موازين القوة مهما يكن سببها و وجاهته أو تفاهته ، إلا أن الأحداث بعدها قد تنسي فيه. أما جائحة كورونا و الظاهر من حالها أنها حرب ضد البشرية فسيكون تضرر القوى العظمى (أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية) منها أكبر ؛ مما قد يجعل الفرصة سانحة لتصدر دول كانت صاعدة أو حتى أخرى كانت بلا نفوذ .
لقد شكل انتصار الصين -حتى اللحظة- على المارد المتخفي أملا وقشة تتعلق بها الكثير من البلدان، و كانت تجربتهم مفيدة للهيئات العاملة في المجال .
و هذا ما حدا بالمدير العام لمنظمة الصحة العالمية و وزير خارجية إثيوبيا الأسبق السيد تيدروس غيبروسوس أن ينصح بمقاربات شبيهة بتلك التي أنقذت الصين التنين ، و هو عذر و موجة ركبها الرئيس الأمريكي ورجل الأعمال دونالد ترامب فلوح بقطع التمويل عن منظمة الصحة العالمية المعني الأول بمحاربة كوفيد19 و غيره من الأمراض متهما إياها بالانحياز للصين ؛ مما يفسر بجلاء أننا في معمعان حرب عالمية ثالثة ، سلاحها بيولوجي بامتياز .
و حين تفقد هذه المنظمة القدرة على الانتصار يمكن اعتبارها الشهيد الأول، مع احتمال سقوط الثاني قريبا، و الذي جرح في بداية المعركة؛ ألا و هو المنظمة العالمية للأغذية و الزراعة (الفاو) .
و بسقوط هاتين الهيئتين التابعتين للأمم المتحدة و مع سياسة الإغلاق و الانغلاق التي تلتزم بها معظم الدول، ربما يدخل النظام العالمي الحالي بداية الإنهيار ، فيفتك فيروس كورونا بالبشرية مخلفا الكثير من الضحايا ، و تتفشى المجاعة و بعض الأوبئة المصاحبة، و تتهاوى الأنظمة الإقتصادية الكبرى و الأنظمة السياسية المنبثقة عنها مباشرة، و تحل الفوضى في العالم بأسره؛ من قبيل القرصنة والسلب و الاجتياح ، و تتوقف معظم الشركات الأجنبية العاملة في مجال التعدين .
و حين يتم القضاء على البلاء قد نكون أمام عالم جديد تغيب فيه ممالك أوروبية عتيدة و تستأسد فيه بعض البلدان الآسيوية و الأفريقية اقتصاديا و سياسيا ، و ربما يكون عقد الولايات المتحدة الأمريكية قد انفرط و شمس روسيا أفلت . عندها -لا محالة- سيتم إنشاء منظمة دولية جديدة تقوم على أنقاض هيئة الأمم المتحدة الثكلى و الجريحة و التي فشلت في تحقيق أهدافها خلال عقود خلت.. هذه المنظمة ستكون أكثر واقعية و عدالة من سابقتها ...
إن هذا التشكل يفرض على بلادنا أن تسرع في حجز مكان غير متأخر في التنظيم الدولي الجديد الذي ستطبعه الاخلاق و قيم التعاون أكثر من عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية .. سيكون عالما سلاحه الماء و الغذاء و ستضعف فيه أو تختفي قوة عملات اليوم (النفط و الغاز) .
لذا فإنه من الضروري أن تعيد حكومتنا ترتيب أولوياتها انطلاقا من الموقع الجغرافي للبلاد (الجيوستراتيجي) و بما يتماشى مع متطلبات النظام العالمي الجديد ، فتركز على الاستثمار "الحقيقي" في التعليم و في الزراعة و الصيد حتى تكون بلادنا قادرة على المنافسة في الوقت الذي توفر فيه أمنا غذائيا و نفسيا للمواطن .