
شهد العصر الحديث بروز حركات نسوية متعددة، تتفاوت في أهدافها وخطاباتها، لكن معظمها يتأسس على رؤية حداثية علمانية تنظر إلى المرأة من منظور مادي نفعي. وقد تصدى المفكر عبد الوهاب المسيري لهذه الإشكالية، ناقدًا الأسس الفكرية التي قامت عليها هذه الحركات، ومبينًا أثرها على الأسرة والمجتمع. وفي هذا السياق، يصبح لزامًا إعادة النظر في مفهوم التحرر الحقيقي للمرأة، بما يتجاوز النظريات الغربية إلى رؤية أكثر إنسانية، تستمد جذورها من التقاليد الإسلامية، التي حفظت للمرأة كرامتها دون أن تسقطها في فخ "التسليع" الذي وقعت فيه الحركات النسوية الحديثة.
الرؤية المادية لحركات التحرر النسوية
يذهب الدكتور عبد الوهاب المسيري إلى أن النسوية الحداثية انطلقت من رؤية مادية ترى الإنسان ككائن بيولوجي خاضع للقوانين الاقتصادية والاجتماعية، وليس كائناً ذا بعد روحي وثقافي. ونتيجة لهذه الرؤية، أصبح تحرير المرأة لا يعني سوى فصلها عن دورها الاجتماعي والأسري، ودمجها في سوق العمل وفق معايير مادية بحتة، حيث يُنظر إليها بوصفها منتجة ومستهلكة، دون أي اعتبار لبعدها الإنساني والأخلاقي.
هذا النهج، بحسب المسيري، أدى إلى تفكيك الأسرة وتحويل العلاقات الأسرية إلى علاقات تعاقدية قائمة على المصلحة الفردية، مما أضعف الروابط الاجتماعية وأدى إلى تراجع دور الأمومة والأسرة كمؤسسات طبيعية لحفظ التوازن الاجتماعي. والأدهى أن المرأة نفسها لم تنجُ من التحول إلى "سلعة"، حيث أصبح جسدها يُستغل في الإعلام والدعاية التجارية، باسم "التحرر" و"التمكين"، بينما الحقيقة أنها خضعت لمعايير السوق التي تُحدد قيمتها بناءً على مظهرها الخارجي لا على فكرها أو إنجازاتها الحقيقية.
التحرر الحقيقي: بين المساواة والتكامل
ينتقد المسيري الطرح النسوي الذي يساوي بين المرأة والرجل وفق مفهوم مادي مطلق، إذ يرى أن المساواة لا تعني التماثل، وإنما التكامل. ففي الرؤية الإسلامية، يتمتع الرجل والمرأة بخصائص تكوينية مختلفة، لا تعني تفوق أحدهما على الآخر، بل تعكس توازنًا دقيقًا يضمن أداء كل منهما لدوره الطبيعي في الأسرة والمجتمع. ومن هذا المنطلق، فإن التحرر الحقيقي للمرأة لا يكون في إلغاء دورها التقليدي، وإنما في تأكيده وحمايته من الاستغلال والتشويه.
الإسلام لم يحرم المرأة من العمل أو المشاركة الاجتماعية، لكنه وضع لذلك ضوابط تحفظ لها كرامتها، وتحميها من الاستغلال المادي. ففي حين تسعى الحركات النسوية الحديثة إلى إخراج المرأة من بيتها دون أي قيود، تؤكد الرؤية الإسلامية على أهمية أن يكون ذلك ضمن إطار يحفظ حقوقها، ويحميها من أن تتحول إلى أداة في يد الرأسمالية، التي لا ترى فيها سوى وسيلة لزيادة الإنتاج والاستهلاك.
من جانبها، تؤكد المفكرة الإسلامية زينب الغزالي أن الحركات النسوية الحديثة قد افتقدت الجذور الثقافية والدينية التي تعزز مكانة المرأة في المجتمع. كما اعتبرت أن المرأة يجب أن تُحرر في إطار مفاهيم إسلامية تضمن لها دورًا حيويًا في بناء المجتمع دون أن تُجرد من هويتها. وأكدت على أن الخروج إلى العمل أو الحياة العامة لا يجب أن يكون على حساب الأسرة أو القيم التي تربط المرأة بحياتها الدينية والاجتماعية. فبدلاً من أن تُسعى المرأة لتحقق "حرية" مادية، ترى الغزالي أن السعي إلى "الحرية الروحية" مع المحافظة على الهويات الثقافية والتقاليد الإسلامية هو السبيل لتحرير المرأة بشكل حقيقي.
في مواجهة هذا الطرح النسوي المادي، يبرز الإسلام كنظام متكامل يقدم نموذجًا بديلًا، يُحقق للمرأة حقوقها دون أن يفصلها عن هويتها الثقافية والدينية. فبدلًا من أن تُعامل المرأة كـ"فرد مستقل تمامًا"، يُنظر إليها كجزء من نسيج اجتماعي، ترتبط فيه الحقوق بالواجبات، في إطار يحفظ التوازن بين حاجاتها الفردية ومتطلبات المجتمع.
هذه الرؤية تحمي المرأة من الضياع في دوامة الحياة المادية، حيث تبقى قيم الأسرة والتكافل حاضرة، بدلًا من أن تُستبدل بعلاقات سطحية قائمة على النفعية. وفي الوقت الذي تدفع فيه النسوية الحديثة النساء إلى مواجهة مستمرة مع الرجل، يسعى الإسلام إلى تحقيق التوازن بين الجنسين، حيث يكمل كل منهما الآخر، دون صراع مفتعل أو إقصاء لأي منهما.
إن الحركات النسوية الحديثة، في سعيها لتحقيق "تحرر" المرأة، وقعت في فخ الرؤية المادية، التي لم تمنح المرأة سوى استقلال ظاهري، بينما جعلتها خاضعة لمنطق السوق والاستهلاك. وعلى النقيض، يقدم الإسلام نموذجًا أكثر إنسانية، يضمن للمرأة كرامتها دون أن يُفقدها دورها الطبيعي في المجتمع. وكما يرى المسيري، فإن التحرر الحقيقي لا يكون في الانسلاخ عن الهوية والتقاليد، وإنما في تحقيق التوازن بين الحقوق والواجبات، ضمن إطار يحفظ للمرأة مكانتها دون أن يحولها إلى أداة في يد القوى المادية المسيطرة.
إن التحدي اليوم ليس في تبني مفاهيم مستوردة تفرض على المرأة تصورات غريبة عن ثقافتها ودينها، بل في إعادة قراءة دورها في المجتمع ضمن رؤية تستلهم من الإسلام قيمه العادلة، بعيدًا عن إملاءات الحداثة المادية التي لم تحقق سوى مزيد من الاستغلال باسم الحرية.











