لكل شيئ حظ من اسمه تلك مسلمة عرفناها من تراث الآباء وإن لم تؤصل, لذلك كانت تسمية تناها ب ” تناها” مجرد إطلاق لوصف على موصوف فهذا الربع من مقاطعة كنكوصه تناهى فعلا في البعد وتناهى في الفقر وتناهى في البؤس لكنه أيضا تناهى في الجمال وتناهى في السحر وتناهى في المفاجئات.
دامت الرحلة التي قدر لي أخيرا أن أقوم بها إلى تلك الناحية بعد أن فشلت محاولات كثيرة في مناسبات مختلفة ست ساعات كاملة للوصول إلى مركز البلدية الذي لا يبعد عن كنكوصه سوى 110 كلم وعلى طول الطريق كانت لنا وقفات في عدد من القرى التابعة للبلدية نقترب فيها أحيانا من الحدود مع مالي إلى أقل من 100م كما في الخشبة و 2 كلم كما في أدباي خديجة.
ظروف المواطنين الصعبة التي تجسدها مظاهر الفقر والبؤس, وآثار الجهل التي تعكسها أحاديث السكان كانت جوانب مثيرة من الرحلة الشاقة.
شيء آخر مثير في هذه الرحلة هو حضور السلطوية في عهد الديموقراطية ففي أكثر القرى يكون زمام القرار بأيدي شيب لا يعصى لهم أمر ولا ترد لهم رغبة وقد يستأثر به شخص واحد استطاع فرض نفسه بغض النظر عن جنسه.
في أدباي خديجة مثلا استوقفتنا تجربة إمارة صغيرة تقبع في عمق تناها , تروي خديجة بنفسها قصتها التي بدأت منذ قرابة العقدين بعد أن توفي زوجها في قرية الظَّلٌّع حيث كانت الأسرة تقيم مع باقي المجموعة القبلية إلا أن ظروفا طارئة _ امتنعت خديجة السبعينية عن البوح بها_ فرضت عليها الهجرة باثنين من أبناءها بعد امتناع الثالث وأقامت قرية خاصة بها قبل أن تكون وجهة لكثير من القادمين الموريتانين من الحدود إلا أن مشاكل وتحديات تواجه إمارة ( أدباي) خديجة دفع الوافدين إلى العودة أدراجهم بعد أن لم تستجب الدولة لطلبات اخديجة الملحة كحفر بئر و فتح بنك للحبوب ومدرسة وهي مطالب ما فتئت الإمارة( أدباي) ممثلة في اخديجة تطرحها كلما سنحت الفرصة من زيارة حاكم أو عمدة أو حتى بعثة للتلقيح.
شح المياه الصالحة للشرب يبقى العامل المشترك بين ما يقارب 99% من قرى تناها حيث يعتمد السكان في الشرب على حُفَر توفر ماء ملوثا إذ يكون في الغالب فضلة للحيوانات وقد تغير لونه بجراثيم تملآ العين المجردة دون الحاجة للتمعن والتدقيق.
وكما تتقاسم الناس هناك مأساة نقص الماء الشروب يأبى لها القدر إلا أن تتقاسم أيضا مرارة ضعف القطاع الصحي وهشاشة بنيته ففي طول البلدية وعرضها لا تتجاوز النقاط الصحية العاملة اثنتين إحداهما في مركز البلدية المتأخم للحدود والثانية محصورة بين جبال أم آوداش في الوسط مع ما تعانيه من افتقار للأدوية وهو ما جعل المواطن المريض يقع رغم أنفه ضحية استعمال أدوية مهربة وتحت رحمة أطباء وأشخاص مهرِّبين . خلال مرورنا بعدة قرى لاحظنا عشرات الأطفال وقد ختنوا بطريقة لا تراعي أدنى معايير السلامة وحين استفسرنا كانت الإجابة التلقائية عند كل من يتحدثون أن رجلا لا يعرف له اسم ولا هوية سوى أنه من دولة مالي يركب دراجة ويدعى أنه طبيب ويدل على ذلك ثمانية قطع موسى حادة يستعملها في القطع يجوب تلك المناطق وينتظره الأهالي بفارغ الصبر كما يعتقدون أنه يحفظ الجرح ( يحكم فم الجرح) بحكمة سوداء يتلوها على حافة الموسى بعد كل عملية قطع.
اللحوم رغم كثرة المواشي يعتبر مذاقها منالا صعبا وحلما قد لا يتحقق لكثير من الأسر إلا في حالة قدوم بعثة من طرف الدولة أما في الحالات العادية فلا تأكل العائلات اللحم إلا في مناسبات العيد أو حين تكون الدابة أولى بالموت بسبب المرض عندها فقط تحصل العائلات على ما يسد الرمق وتجفف الباقي من أجل استعماله في أيام العسرة الأكثر.
مظاهر البؤس هذه و ألوان الشقاء تلك ليس الطابع الوحيد لبلدية تناها فقد حباها الله بمناظر طبيعية خلابة تحتوي على هضاب وكهوف وحتى تحف أثرية نادرة كما تروي شهادات المواطنين.
ففي ما يعرف بجهة تناها العدلة تتراءى لك من مسافة 100 كلم على كل الجهات هضبة تعرف ب ” اكليب زقرلي ” مشكلا معلما طبيعيا مميزا يستطيع بواسطته الزائر أن يتبين وبسهولة طريقه في حالة الخطأ و الارتباك.
ملاحظة : تم نشر هذا التقرير لأول مرة قبل أربع سنوات لذلك وجب التنبيه